سورة الأحزاب - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} المثبّطين {مِنكُمْ} الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ} تعالوا {إِلَيْنَا} ودُعوا محمّداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك.
{وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} دفعاً وتغديراً. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمّد وأصحابه إلاّ أكلة رأس ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك.
قال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أنَّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إنْ قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً، وإنَّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمَّ إلينا، فأقبل عبد الله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً، ما ترجون من محمّد؟ فوالله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلاّ أنْ يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلاّ إيماناً واحتساباً.
وقال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له أخوه: هلمَّ إلى هذا فقد تبع بك وبصاحبك، والذي تحلف به لا يستقيلها محمّدٌ أبداً، فقال: كذبت والذي تحلف به، وكان أخوه من أبيه وأُمّه، أما والله لأخبرنَّ النبي صلّى الله عليه أمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية.
قوله: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قَسم الغنيمة، وهي نصب على الحال والقطع من قوله: {وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} وصفهم الله بالجبن والبخل.
{فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في رؤوسهم من الخوف والجبن {كالذي} أي كدوران عين الذي {يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ} عصوكم ورموكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ذربة جمع حديد، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب.
وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فإنّا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحقّ بالغنيمة منّا، فأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأمّا عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ.
{أَشِحَّةً عَلَى الخير} يعني الغنيمة {أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً}.
قوله: {يَحْسَبُونَ} يعني هؤلاء المنافقين {الأحزاب} يعني قريشاً وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومخالفته أي اجتمعوا، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب.
{لَمْ يَذْهَبُواْ} ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعةً وفرقاً.
{وَإِن يَأْتِ الأحزاب} إن يرجعوا إليكم كرّةً ثانية.
{يَوَدُّواْ} من الخوف والجبن {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ} خارجون إلى البادية {فِي الأعراب} أي معهم {يَسْأَلُونَ} قراءة العامّة بالتخفيف، وقرأ عاصم الحجدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشدّدة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضاً.
{عَنْ أَنبَآئِكُمْ} أخباركم وما آل إليه أمركم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} يعني هؤلاء المنافقين {مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلا} رياءً من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً.
قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله} محمّد صلّى الله عليه وسلم {أُسْوَةٌ} قدوة {حَسَنَةٌ} قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان {أُسْوَةٌ} بضمّ الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عُدوة وعِدوة ورُشوة ورِشوة وكُسوة وكِسوة. وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضمّ الأُخرى.
قال أبو عبيد: ولا نعرف بين ما فَرَّقَ يحيى فرقاً.
قال المفسِّرون: يعني {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سنّة صالحة أنْ تنصروه وتؤازروه ولا تتخلّفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح فوق حاجبة وقتل عمّه حمزة، وأُوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضاً كذلك واستنّوا بسنّته.
{لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} في الرخاء والبلاء. ثمّ ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ} تسليماً لأمر الله وتصديقاً لوعده {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ}.
ووعد الله تعالى إيّاهم قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} إلى قوله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
{وَمَا زَادَهُمْ} ذلك {إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}.
قوله: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} فوفوا به {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب أيضاً الموت. قال ذو الرمّة:
عشية فر الحارثيون بعدما *** قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر
أي مات. قال مقاتل: قضى نحبه يعني أجله، فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه. وقيل: قضى نحبه أي أجهده في الوفاء بعهده من قول العرب: نحبَ فلان في سيره يومه وليلته أجمع إذا مد فلم ينزل. قال جرير:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا *** عشية بسطام جرين على نحب
{وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الشهادة {وَمَا بَدَّلُواْ} قولهم وعهدهم ونذرهم {تَبْدِيلاً}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني، عن محمد بن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد عن أنس قال: غاب عمّي أنس بن النضر وبه سميت أنس عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال: غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالاً ليرينّ الله ما أصنع.
قال: فلمّا كان يوم أحُد انكشف المسلمون فقال: اللّهم إنّي أبرءُ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أُحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثّلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أُخته بثناياه، ونزلت هذه الآية {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً}.
قال: فكنا نقول: نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي، عن صالح بن محمد، عن سليمان بن حرب، عن حزم، عن عروة عن عائشة في قوله: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قالت: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أُصيبت يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أوجب طلحة الجنّة.
وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أنَّ طلحة بن عبيد الله يوم أحُد كان محتصناً للنبيّ عليه السلام في الخيل وقد بُهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: فجاء سهم عابر متوجّهاً إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال: حَس ثمّ قال: بسم الله، فقال النبيّ عليه السلام: «لو أنَّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة».
وروى معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت: إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أنْ ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة».
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي، عن محمد ابن عبّاد الواسطي، عن مكي بن إبراهيم، عن الصلت بن دينار، عن ابن نضر، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سرّه أنْ ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
{لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} من قريش وغطفان {بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} نصراً وظفراً {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالملائكة والريح {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً}.
قوله عزّ وجلّ: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم} يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان وهم بنو قريظة، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم، وانصرف عليه السلام والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، ووضعوا السلاح، فلمّا كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتماً بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقّة فقال: قد وضعتَ السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، قال جبرائيل: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلاّ من طلب القوم، إنّ الله يأمرك يا محمّد بالسير إلى بني قريظة وأنا عامدٌ إلى بني قريظة فانهض إليهم، فإنّي قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً، فأذَّن إنَّ من كان سامعاً مطيعاً لا يصلّين العصر إلاّ في بني قريظة.
وقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس؛ فسار علي ابن أبي طالب حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم، فرجع حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطريق وقال: يارسول الله لا عليك أنْ لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
قال: لِمَ؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى. قال: نعم يارسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلمّا دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً.
ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أنْ يصل إلى بني قريظة فقال: هل مرَّ بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله لقد مرَّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك جبرائيل بُعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلّين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنّفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وحاصرهم رسول الله خمساً وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده، فلمّا أيقنوا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإنّي عارض عليكم خِلالاً ثلاث، فخذوا أيّها شئتم، فقالوا: وما هنّ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدّقه فوالله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل، وأنّه لَلذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه، وإنْ نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم.
قال: فإنْ أبيتم على هذه فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّه عسى أنْ يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا أنْ نصيب من محمّد وأصحابه غرّة، قالوا: نفسد سبتنا ونُحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممّن قد علمت، فأصابهم من المسخ ما لم يَخْفَ عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أُمّه بليلة واحدة من الدهر حازما. قال: ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس ستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في جهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أنْ ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنّه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأتِ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتّى يتوب الله عليَّ ممّا صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً.
فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ فَعَل فما أنا بالذي أُطلقه من مكانه حتّى يتوب الله عليه، ثمّ إنّ الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أُمّ سلمة وقالت أُمّ سلمة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من السَّحَر يضحك فقلت: مِمَّ ضحكت يارسول الله أضحك الله سنّك؟
قال: تيب على أبي لبابة، فقالت: ألا أُبشّره بذلك يارسول الله؟ قال: بلى إنْ شئت قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب الحجاب عليهن. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فسار إليه الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتّى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلمّا مرَّ عليه خارجاً إلى الصبح أطلقهُ.
قال: ثمّ إنَّ ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هزل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري في تلك الليلة، فلمّا رآه قال: مَنْ هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بمحمّد أبداً، فقال محمّد بن مسلمة حين عرفه: اللهمّ لا تحرمني عثرات الكرام، ثمّ خلّى سبيله، فخرج على وجهه، حتّى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة، ثمّ ذهب فلا يُدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا، فذُكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم شأنه فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه.
وبعض الناس يزعم أنّه أُوثق برمّة فيمن أُوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأصبحت رمَّته ملقاة لا يُدرى أين ذهب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلك المقالة والله أعلم.
فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله إنّهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إيّاه عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له، فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أنْ يحكم فيهم رجل منكم»؟ قالوا: بلى.
قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ». وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين، يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب».
فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا لهُ بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في موإليك، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولاّك ذاك لتحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال: قد أتى لسعد أنْ لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أنْ يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه». فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاّكَ مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعليّ من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم.
قال سعد: فإنّي أحكم فيهم، أنْ يُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة».
، ثمّ استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجّار، ثمّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقاً ثمّ بعث إليهم فضرب أعناقهم، فهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالاً وفيهم عدوّ الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.
وقيل: قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب ما ترى أنْ يُصنع بنا؟ فقال كعب: في كلّ موطن لا تعقلون ألا ترون أنّ الداعي لا ينزع وأنَّ مَن يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل. فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله عليه وأُتي بحيي بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلاّ يسلبها، مجموعه يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنّه مَن يخذل الله يُخذلِ، ثمّ أقبل على الناس، فقال: أيّها الناس، إنّه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثمّ جلس فضربت عنقه فقال هبل بن حواس الثعلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يخذل
يجاهد حتى أبلغ النفس عذرها *** وقلقل يغبي العز كل مقلقل
وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لم يقتل من نساء بني قريظة إلاّ امرأة واحدة، قالت: والله إنّها لعندي تتحدّث معي وتضحك ظهراً، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق؛ إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أُقتل. قلت: ولِمَ؟ قالت: حدثٌ أحدثته. قال: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة تقول: ما أنسى كذا عجباً منها طيب نفس، وكثرة ضحك، وقد عرفت أنّها تُقتل.
قال الواقدي: واسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت قد قتلت خلاّد بن سويد، رمت عليه رحا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وضربت عنقها بخلاّد بن سويد، وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أنَّ الزبير بن باطا القرظي وكان يكنى أبا عبد الرحمن كان قد مَنَّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بغاث أخذه فجرّ ناصيته، ثمّ خلّى سبيله، وجاءه يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
فقال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إنّي قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إنّ الكريم يجزي الكريم، قال:ثمّ أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليَّ مِنَّة، وقد أحببتُ أنْ أجزيه بها فَهَبْ لي دمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه: «هو لك».
فأتاه فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك. فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أهله وولده؟ فقال: «هم لك». فأتاه فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك. فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله فقال: يا رسول الله ماله. فقال: «هو لك» فأتاه فقال: إنّ رسول الله قد أعطاني مالك فهو لك. فقال أي ثابت: ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حُيّي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا، وحامينا إذا كررنا أعزال ابن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال: ذهبوا قتلوا، قال: وإنّي اسألك بيدي عندك يا ثابت إلاّ ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فها أنا صابر لله حتى ألقى الأحبّة، فقدّمه ثابت فضرب عنقه، فلمّا بلغ قوله أبا بكر ألقى الأحبّة، فقال: يلقاهم والله في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً أبداً، فقال ثابت بن قيس في ذلك:
وفت ذمّتي إني كريم وإنّني *** صبور إذا ما القوم حادوا عن الصبرِ
وكان زبير أعظم الناس منّةٌ *** عليَّ فلما شد كوعاه بالأسرِ
أتيت رسول الله كي ما أفكّه *** وكان رسول الله بحراً لنا يجري
قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أُسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس أُمّ المنذر أُخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانت قد صلّت معه القبلتين وبايعته بيعة النساء رفاعةً بن سموأل القرظي وكان رجلاً قد بلغ، فَلاذَ بها وكان يعرفها قبل ذلك فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي هب لي رفاعة بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها فاستحيته قالوا: ثمّ إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قَسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان للخيل وسهمان للرجال، وأخرج منها الخمس، وكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللفارس سهم، وللرّاجل ممّن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستّة وثلاثون فرساً، وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله فيها وقعت المقاسم ومضت السنّة في المغازي، ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن حنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى توفّي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحرص أنْ يتزوّجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يارسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخفّ عليَّ وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبتْ إلاّ اليهودية، فعزلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إنّ هذا لثعلبة بن شعبة يبشِّرني بإسلام ريحانة، فجاءَه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسرّه ذلك.
فلمّا انقضى شأن بني قريظة الفجر خرج سعد بن معاذ، وذلك أنّه دعا بعد أنْ حكم في بني قريظة ما حكم فقال: اللّهمّ إنّك قد علمت أنّه لم يكن قوم أحبّ إليَّ من أنْ أجاهدهم من قوم ذّبوا رسولك، اللّهمّ إنْ كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني لها، وإنْ كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضرب عليه في المسجد.
قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فوالذي نفس محمّد بيده إنّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإنّي لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله عزّ وجلّ: {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
قال علقمة: أي أمّه كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنّه كان إذا اشتدّ وجده فإنّما هو آخذ بلحيتهِ، قال محمّد بن إسحاق: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلاّ ستّة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلاّد بن سويد بن ثعلبة طرحت عليه رحى فشدخته فقط.
ولمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق وقريظة قال: الآن نغزوهم يعني قريشاً ولا يغزوننا، فكان كذلك حتّى فتح الله على رسوله مكّة، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس للهجرة فذلك قوله الله عزّ وجلّ: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ} أي حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل لقرن البقر صيصية، ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وقال الشاعر:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد... {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} وهم الرجال {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وهم النساء والذراري {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني خيبر. قتادة: كنّا نُحدّث أنّها مكّة. قال الحسن: فارس والروم. عكرمة: كلّ أرض تفتح إلى يوم القيامة. {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)}
قوله: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة} فأطعتنهما {فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} قال المفسِّرون: كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أنْ لا يقربهن شهراً، ولم يخرج إلى أصحابه صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إنْ شئتم لأعلمن لكم ما شأنه فأتى النبي عليه السلام فجعل يتكلّم ويرفع صوته حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أُكلِّم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلّه ينبسط؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة، فصككتها صكّة فقال: ذلك أجلسني عنكم.
فأتى عمر حفصة فقال: لا تسألي رسول الله شيئاً ما كانت لكِ من حاجة فإليّ، قال: ثمّ تتبّع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلِّمهنّ، فقال لعائشة: أيعزّك أنّكِ امرأة حسناء وأنّ زوجك يحبّكِ لتنتهن أو لينزلن فيكنّ القرآن، قال: فقالت له أُمّ سلمة: يابن الخطّاب أوما بقي لك إلاّ أنْ تدخل بين رسول الله وبين نسائه؟ مَن يسأل المرأة إلاّ زوجها؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات.
وكانت تحت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، فلمّا نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعائشة، وكانت أحبّهنّ إليه، فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فَرؤيَ الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك.
قال قتادة: فلمّا اخترن الله ورسوله، شكرهنّ الله على ذلك، وقصره عليهن وقال: {لا يحلّ لك النساء من بعد} الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن الحسين عن أحمد بن يوسف عن عبدالرزّاق عن معمر، «أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنّك قد دخلت عليَّ من تسع وعشرين أعدّهن، فقال: إنّ الشهر تسع وعشرون، ثمّ قال: يا عائشة إنّي ذاكر لك أمراً فلا عليكِ أنْ لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك»، قالت: ثمّ قرأ عليَّ هذه الآية: {قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} حتى بلغ {أَجْراً عَظِيماً}.
قالت عائشة: قد علم والله إنّ أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: في هذا أستامر أبويّ؟ فإنّي أُريد الله ورسوله والدار الآخرة. «قال معمر: فحدّثني أيّوب أنّ عائشة قالت: لا تخبر أزواجك انّي اخترتك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنّما بعثني الله مبلِّغاً ولم يبعثني متعنّتاً».
وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون عن أحمد بن محمّد بن الحسن عن محمد بن يحيى عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة أنّ عائشة قالت: لمّا أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إنّي مخبركِ خبراً فلا عليك أنْ لا تعجلي حتّى تستأمري أبويكِ، ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: {إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} حتّى بلغ {أَجْراً عَظِيماً}.
فقلت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أُريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثمّ فعل أزواج النبيّ صلّى الله عليه مثل ما فعلتُ.
قوله: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ} قرأ الجحدري بالتاء. غيره بالياء. {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} بمعصية ظاهرة {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب} في الآخرة {ضِعْفَيْنِ} وقرأ ابن عامر وابن كثير: بالنون وكسر العين مشدّداً من غير ألف العذاب نصباً.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يُضَاعَفْ} بالياء وفتح العين مشدّداً {العذاب} رفعاً. قال أبو عمرو: إنّما قرأت هذه وحدها بالتشديد لقوله: {ضِعْفَيْنِ} وقرأ الباقون نضاعف بالألف ورفع الباء من {العذاب} وهما لغتان مثل باعد وبعد.
وقال أبو عمرو وأبو عبيدة: ضعفت الشيء إذا جعلته مثله، مضاعفته جعلته أمثاله.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} قوله: {وَمَن يَقْنُتْ} يطع.
قال قتادة: كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة وقراءة العامة {تقنت} بالتاء وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف {تَعمَل} {نِؤْتِها} بالياء. غيرهم بالتاء.
قال الفراء: إنّما قال: {يأتِ} {ويقنت} لاِنّ مَنْ أداة تقوم مقام الاسم يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43]. وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]، وقال: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ} [الأحزاب: 31]. وقال الفرزدق في الاثنين:
تعال فإنْ عاهدتني لا تخونني *** تكن مثل من يا ذئب يصطحبانِ
{مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي مثلَي غيرهن من النساء. {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} يعني الجنّة.
أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمد بن عمران بن هارون، عن أحمد بن منيع، عن يزيد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت عن أبي رافع قال: كان عمر يقرأ في صلاة الغداة بسورة يوسف والأحزاب، فإذا بلغ: {يانسآء النبي} رفع بها صوته، فقيل له، فقال: أُذكّرهنّ العهد.
واختلف العلماء في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود: إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت زوجها فلا شيء عليه، وإنْ اختارت نفسها طُلّقت وإلى هذا ذهب مالك.
وقال الشافعي: إنْ نوى الطلاق في التخيير كان طلاقاً وإلاّ فلا. واحتجّ مَنْ لم يجعل التخيير بنفسه طلاقاً، بقوله: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}، وبقول عائشة: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم نعدّهُ طلاقاً.
قوله: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن} الله فأطعتنه. قال الفرّاء: لم يقل كواحدة، لأنّ الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث. قال الله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] وقال: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47].
{فَلاَ تَخْضَعْنَ} تلنَّ {بالقول} للرجال {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فجور وضعف إيمان {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} صحيحاً جميلاً.


{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف. غيرهم بالكسر، فَمَن فتح القاف فمعناه واقررن، أي الْزَمن بيوتكنّ، من قولك قررتُ في المكان، أقرّ قراراً. وقررتُ أقرُّ لغتان فحذفت الراء الأُولى التي هي عين الفعل ونقلت حركتها إلى القاف فانفتحت كقولهم في ظللت وظلْت.
قال الله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] والأصل ظللت فحذفت إحدى اللاّمين، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول: قررت أقرّ قراراً.
وقال أبو عبيدة: وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله: {فَظَلْتُمْ} [الواقعة: 65] ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار كقولك من الوعد: عِدن ومن الوصل صِلن، أي كنَّ أهل وقار أي هدوء وسكون وتؤدة من قولهم: وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش عن أبي الضحى قال: حدّثني من سمع عائشة تقرأ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فتبكي حتّى تبلّ خمارها.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن حميد، عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد قال: نُبئت أنَّه قيل لسودة زوج النبي عليه السلام: مالكِ لا تحجّين ولا تعتمرين كما يفعلنَّ أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أنْ أقرَّ في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتّى أموت.
قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرجت جنازتها. قوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ}
قال مجاهد وقتادة: التبرّج التبختر التكبّر والتغنّج وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال {تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} واختلفوا فيها. قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمّد عليهما السلام. أبو العالية: هي زمن داود وسليمان وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدرّ غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه.
الكلبي: الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم عليه السلام، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتّخذ الدّرع من اللؤلؤ فتلبسه ثمّ تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وكان ذلك في زمان نمرود الجبّار، والناس حينئذ كلّهم كفّار. الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان. فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ هذه الآية فقال: إنّ الجاهلية الأُولى فيما بين نوح وإدريس عليهما السلام، وكانت ألف سنة، وإنّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دمامة، وإنّ إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فآجَرَ نفسه منه، فكان يخدمه، واتّخذ إبليس شيئاً مثل الذي يزمر فيه الرّعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك مَن حولهم، فانتابوه يستمعون إليه، واتّخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فتتبرّج النساء للرجال وتتزيّن الرجال لهنّ، وإنّ رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحوّلوا إليهم فنزلوا معهم، فظهرت الفاحشة فيهنّ.
فهو قول الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية}.
وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام {وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس} الإثم الذي نهى الله النساء عنه. قاله مقاتل. وقال قتادة: يعني السوء. وقال ابن زيد: يعني الشيطان.
{أَهْلَ البيت} يعني يا أهل بيت محمّد {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} من نجاسات الجاهلية. وقال مجاهد {الرِّجْسَ} الشكّ {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً} من الشرك.
واختلفوا في المعنيّ بقوله سبحانه {أَهْلَ الْبَيْتِ} فقال قوم: عنى به أزواج النبي عليه السلام خاصّة، وإنّما ذَكّرَ الخطاب لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فيهم وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غُلبَ المذكّر.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن جعفر، عن الحسن بن علي بن عفّان قال: أخبرني أبو يحيى، عن صالح بن موسى عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: أُنزلت هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} الآية في نساء النبيّ صلّى الله عليه. قال: وتلا عبدالله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة عن الحماني عن ابن المبارك عن الأصبغ بن علقمة. وأنبأني عقيل بن محمد قال: أخبرني المعافى ابن زكريا عن محمّد بن جرير قال: أخبرني ابن حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة، عن عكرمة في قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} قال: ليس الذي تذهبون إليه، إنّما هو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة.
قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق. وإلى هذا ذهب مقاتل قال: يعني نساء النبي صلّى الله عليه كلّهن ليس معهنّ رجل.
أقوال المفسِّرين والعلماء باختصاصها بأصحاب الكساء:
* قال أبو بكر النقّاش في تفسيره: أجمع أكثر أهل التّفسير أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم جواهر العقدين: الباب الأول، وتفسير آية المودّة: 112.
* وقال سيدي محمّد بن أحمد بنيس في شرح همزيّة البوصيري: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} أكثر المفسِّرين أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم (لوامع أنوار الكوكب الدرّي: 2/ 86).
وقال العلاّمة سيدي محمّد جسوس في شرح الشمائل: «... ثمّ جاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معهم، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وفي ذلك إشارة إلى أنّهم المراد بأهل البيت في الآية» (شرح الشمائل المحمدية: 1 / 107 ذيل باب ما جاء في لباس رسول الله).
* وقال السمهودي: وقالت فرقة، منهم الكلبيّ: هم عليّ وفاطمة والحسن الحسين خاصّة، للأحاديث المتقدمة (جواهر العقدين: 198 الباب الأول).
* وقال الطّحاوي في مشكل الآثار بعد ذكر أحاديث الكساء: فدلّ ما روينا في هذه الآثار ممّا كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمّ سلمة ممّا ذكرنا فيها، لم يرد أنّها كانت ممّا اريد به ممّا في الآية المتلوّة في هذا الباب، وأنّ المراد بما فيها هم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين دون ما سواهم (مشكل الآثار: 1 / 230ح 782 باب 106 ما روي عن النبيّ في الآية).
وقال بعد ذكر أحاديث تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم الآية على باب فاطمة: في هذا أيضاً دليل على أنّ هذه فيهم (مشكل الآثار: 1 231ح 785 باب 106 ما روي عن النبيّ في الآية).
* وقال الفخر الرازي: وأنا أقول: آل محمّد صلى الله عليه وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنّقل المتواتر؛ فوجب أن يكونوا هم الآل.
أيضاً اختلف النّاس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم امّته، فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل؛ فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه، وروى صاحب الكشاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية المودّة قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عليّ وفاطمة وابناهما»، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التّعظيم ويدلّ عليه وجوه.... إلخ (تفسير الفخر الرازي: 27 / 166 مورد آية المودّة [23] من سورة الشورى).
* وقال في موضع آخر: واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليّ منهم؛ لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بنت النبيّ وملازمته للنبيّ صلى الله عليه وسلم (تفسير الفخر الرازي: 25 / 209).
* وقال أبو بكر الحضرمي في رشفة الصادي: والذي قال به الجماهير من العلماء، وقطع به أكابر الأئمّة، وقامت به البراهين وتظافرت به الأدلّة أنّ أهل البيت المرادين في الآية هم سيّدنا عليّ وفاطمة وابناهما.....وما كان تخصيصهم بذلك منه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ عن أمر إلهيّ ووحي سماويّ... والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وبما أوردته منها يعلم قطعاً أنّ المراد بأهل البيت في الآية هم عليّ وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم، ولا التفات إلى ما ذكره صاحب روح البيان من أنّ تخصيص الخمسة المذكورين عليهم السلام بكونهم أهل البيت من أقوال الشيعة، لأنّ ذلك محض تهوّر يقتضي بالعجب، وبما سبق من الأحاديث وما في كتب أهل السنّة السنيّة يسفر الصبح لذي عينين إلى أن يقول وقد أجمعت الأُمّة على ذلك فلا حاجة لإطالة الاستدلال له رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبيّ الهادي: 13- 14- 16 ط. مصر و23 و40 ط. بيروت- الباب الأول- ذكر تفضيلهم بما أنزل الله في حقّهم من الآيات.
* وقال ابن حجر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] أكثر المفسّرين على أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (الصواعق المحرقة: 143 ط. مصر، وط. بيروت: 220 الباب الحادي عشر، في الآيات الواردة فيهم، الآية الاولى).
* وقال في موضع آخر بعد تصحيح الصلاة على الآل:.. فالمراد بأهل البيت فيها وفي كلّ ما جاء في فضلهم أو فضل الآل أو ذوي القربى جميع آله صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب، وبه يعلم أنّه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كلّه مراده الروايات التي حذفت الآل كما في الصحيحين، والروايات التي اثبتت الآل فحفظ بعض الرواة مالم يحفظه الآخر، ثمّ عَطْف الأزواج والذرّيّة على الآل في كثير من الروايات يقتضي أنّهما ليسا من الآل، وهو واضح في الأزواج بناءً على الأصحّ في الآل أنّهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب، وأمّا الذرّيّة فمن الآل على سائر الأقوال، فذكرهم بعد الآل للإشارة إلى عظيم شرفهم (الصواعق المحرقة: 146 ط. مصر و224- 225 ط. بيروت، باب 11، الآيات النازلة فيهم- الآية الثانية).
* وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأمّا قوله في الرواية الاخرى: «نساؤه مِن أهل البيت ولكن أهل بيته من حرم الصدقة».
قال: وفي الرواية الاخرى: «فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا».
فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنّه قال: «نساؤه لسن من أهل بيته»، فَتُتَأول الرواية الاولى على أنّ المراد أنهنّ من أهل بيته الذين يسكنونه ويعولهم.... ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة (صحيح مسلم بشرح النووي: 15 / 175ح 6175 كتاب الفضائل فضائل عليّ).
* وقال السمهودي: وحكى النووي في شرح المهذّب وجهاً آخر لأصحابنا: أنّهم عترته الذين ينسبون إليه صلى الله عليه وسلم قال: وهم أولاد فاطمة ونسلهم أبداً، حكاه الأزهري وآخرون عنه. انتهى.
وحكاه بعضهم بزيادة أدخل الأزواج (جواهر العقدين: 211 الباب الأول، وبهامشه: شرح المهذب: 3 / 448).
* وقال الإمام مجد الدين الفيروز آبادي: المسألة العاشرة: هل يدخل في مثل هذا الخطاب (الصلاة على النبيّ) النّساء؟ ذهب جمهور الأُصوليين أنّهنّ لا يدخلن، ونصّ عليه الشافعي، انتُقد عليه، وخطئ المنتقد (الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر: 32 الباب الأول).
* وقال الملاّ عليّ القاري: الأصحّ أنّ فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلاّ أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنّهم يفضّلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم العترة الطاهرة والذرّيّة الطيّبة الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا (شرح كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة: 210 مسألة في تفضيل أولاد الصحابة).
* وقال السمهودي بعد ذكر الأحاديث في إقامة النبيّ آله مقام نفسه وذكر آية المباهلة وأنّها فيهم: وهؤلاء هم أهل الكساء، فهم المراد من الآيتين (المباهلة والتطهير) (جواهر العقدين: 204 الباب الأول).
* وقال الحمزاوي: واستدلّ القائل على عدم العموم بما روي من طرق صحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين.. وذكر أحاديث الكساء، إلى أن قال: ويحتمل أنّ التّخصيص بالكساء لهؤلاء الأربع لأمر إلهيّ يدلّ له حديث أمّ سلمة، قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي (مشارق الأنوار للحمزاوي: 113 الفصل الخامس من الباب الثالث- فضل أهل البيت).
وقال القسطلاني: ان الراجح أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، كما نص عليه الشافعي واختاره الجمهور ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحل لنا الصدقة، وقيل المراد بآل محمّد أزواجه وذرّيّته.
ثمّ ذكر بعد ذلك كلام ابن عطيّة فقال: الجمهور على أنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين وحجتهم {عنكم ويطهِّركم} بالميم (المواهب اللدنية: 2 / 517- 529 الفصل الثاني من المقصد السابع).
* وقال أبو منصور ابن عساكر الشافعي: بعد ذكر قول أُمّ سلمة: «وأهل البيت رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين» هذا حديث صحيح.
.. والآية نزلت خاصّة في هؤلاء المذكورين (كتاب الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين: 106 ح 36 ذكر ما ورد في فضلهنّ جميعاً).
* وقال ابن بلبان (المتوفى 739 ه) في ترتيب صحيح ابن حبّان: ذكر الخبر المصرّح بأنّ هؤلاء الأربع الذين تقدّم ذكرنا لهم هم أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم ثمّ ذكر حديث نزول الآية فيهم عن واثلة (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان: 9 / 61 ح 6937 كتاب المناقب، ويأتي الحديث بتمامه).
* وقال ابن الصبّاغ من فصوله: أهل البيت على ما ذكر المفسِّرون في تفسير آية المباهلة، وعلى ما روي عن أُمّ سلمة: هم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (مقدّمة المؤلف: 22).
* وقال الحاكم النيسابوري بعد حديث الكساء والصلاة على الآل وأنّه فيهم: إنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم (المستدرك: 3 / 148 كتاب المعرفة- ذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام ).
وقال الحافظ الكنجي: الصحيح أنّ أهل البيت عليّ وفاطمة والحسنان (كفاية الطالب: 54 الباب الأول).
وقال القندوزي في ينابيعه: أكثر المفسِّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم ويطهِّركم (ينابيع المودّة: 1 / 294 ط. اسلامبول 1301 ه و352 ط. النجف، باب 59 الفصل الرابع).
* وقال محبّ الدّين الطبري: باب في بيان أنّ فاطمة والحسن والحسين هم أهل البيت المشار إليهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وتجليله صلى الله عليه وسلم إيّاهم بكساء ودعائه لهم (ذخائر العقبى: 21).
* وقال السخاوي في القول البديع في بيان صيغة الصلاة في التشهّد: فالمرجع أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، وذكر أنّه اختيار الجمهور ونصّ الشافعي، وأنّ مذهب أحمد أنّهم أهل البيت، وقيل: المراد أزواجه وذرّيّته... (عن هامش الصواعق المحرقة لعبد الوهاب عبد اللطيف: 146 ط. مصر 1385 ه).
* وقال القاسمي: ولكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: أحدهما أنّهنّ لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم (تفسير القاسمي المسمّى محاسن التأويل: 13 / 4854 مورد الآية ط. مصر = عيسى الحلبي).
* وقال الآلوسي: وأنت تعلم أنّ ظاهر ما صحّ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم خليفتين وفي رواية ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». يقتضي أنّ النّساء المطهَّرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثّقلين (تفسير روح المعاني: 12 / 24 مورد الآية).
* وقال الشاعر الحسن بن عليّ بن جابر الهبل في ديوانه: آل النّبيّ همُ أتباع ملّته من مؤمني رهطه الأدنون في النّسبِهذا مقال ابن إدريس الذي روت ال أعلام عنه فمِل عن منهج الكذبِوعندنا أنّهم أبناء فاطمة وهو الصحيح بلا شكّ ولا ريب. (جناية الأكوع: 28) وقال الحافظ البدخشاني: وآل العباء عبارة عن هؤلاء لأنّه صحّ عن عائشة وأُمّ سلمة وغيرهما بروايات كثيرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جلّل هؤلاء الأربعة بكساء كان عليه، ثمّ قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
* وقال توفيق أبو علم: فالرأي عندي أنّ أهل البيت هم أهل الكساء: عليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن خرج من سلالة الزهراء وأبي الحسنين رضي الله عنهم أجمعين (أهل البيت: 92 ذيل الباب الأول، و: 8- المقدّمة).
وقال في موضع الردّ على عبد العزيز البخاري: أمّا قوله: إنّ آية التطهير المقصود منها الأزواج، فقد أوضحنا بما لا مزيد عليه أنّ المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة لا الأزواج (أهل البيت: 35 الباب الأول).
* وقال: وأمّا ما يتمسك به الفريق الاعم والاكبر من المفسّرين فيتجلى فيما روي عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة» (أهل البيت: 13- الباب الأول).
* وقال الشوكاني في إرشاد الفحول في الردّ على من قال أنّها مختصة بالنّساء: ويجاب عن هذا بأنّه قد ورد بالدليل الصحيح أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الاصول: 83 البحث الثامن من المقصد الثالث، وأهل البيت لتوفيق أبو علم: 36- الباب الأول).
* وقال أحمد بن محمّد الشامي: وقد أجمعت امّهات كتب السنّة وجميع كتب الشيعة على أنّ المراد بأهل البيت في آية التطهير النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين؛ لأنّهم الذين فسرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المراد بأهل البيت في الآية، وكلّ قول يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد أو قريب مضروبٌ به عرض الحائط، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من تفسير غيره؛ إذ لا أحد أعرف منه بمراد ربّه (جناية الأكوع: 125الفصل السادس).
* وقال الشيخ الشبلنجي: هذا ويشهد للقول بأنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين ما وقع منه صلى الله عليه وسلم حين أراد المباهلة، هو ووفد نجران كما ذكره المفسِّرون (نور الأبصار: 122 ط. الهند و223 ط. قم، الباب الثاني- مناقب الحسن والحسين).
* وقال الشيخ السندي في كتابه (دراسات اللبيب في الاسوة الحسنة بالحبيب): وهذا التحقيق في تفسير (أهل البيت) يعيّن المراد منهم في آية التطهير؛ مع نصوص كثيرة من الأحاديث الصحاح المنادية على أنّ المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؛ ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلّد في دفترنا يجب على طالب الحقّ الرجوع إليه (عنه عبقات الأنوار: 1 / 350ط. قم، و911 ط. إصبهان قسم حديث الثّقلين).
* وقال الرفاعي: وقيل عليّ وفاطمة وابناهما، وهو المعتمد الذي عليه جمهور العلماء (المشرع الروي: 1 / 17).
وقال الدكتور عبّاس العقاد: واختلف المفسرون فيمن هم أهل البيت:
أمّا الفخر الرازي في تفسيره (6 / 783)، والزمخشري في كشافه، والقرطبي في تفسيره، وفتح القدير للشوكاني، والطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور (5 / 169)، وابن حجر العسقلاني في الاصابة (4 / 407)، والحاكم في المستدرك، والذّهبي في تلخيصه (3 / 146)، والإمام أحمد في الجزء الثالث صفحة:؛ فقد قالوا جميعاً: إنّ أهل البيت هم عليّ والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين رضي الله عنهم. وأخذ بذكر الأدلة. (فاطمة الزهراء للعقاد: 70 ط. مصر دار المعارف الطبعة الثالثة.).
وقال آخرون: عنى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي، عن محمّد بن جرير، حدّثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن ريان الغبري، عن مسدل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية فيَّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن أبي عبد الله بن نمير، عن عبد الملك يعني ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدّثني من سمع أُمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجكِ وابنَيْكِ، قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أُصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنَّكِ إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي، عن عمر بن الخطّاب، عن عبد الله بن الفضل، عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشب، «حدّثني ابن عمّ لي من بني الحرث بن تيم الله يقال له: مجمع، قال: دخلت مع أُمّي على عائشة، فسألَتها أُمّي، فقالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنّه كان قدراً من الله سبحانه، فسألتها عن علي، فقالت: تسأليني عن أحبّ النّاس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بثوب عليهم ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
قالت: فقلت: يا رسول الله أنا مِن أهلك؟ قال: تنحّي فإنّكِ إلى خير».
وأخبرني الحسين بن محمّد عن أبي حبيش المقرئ قال: أخبرني أبو القاسم المقرئ قال: أخبرني أبو زرعة، حدّثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، أخبرني ابن أبي فديك حدّثني ابن أبي مليكة عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيّار عن أبيه، قال: لمّا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ مرّتين، فقالت زينب: أنا يارسول الله، فقال: أُدعي لي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين. قال: فجعل حسناً عن يمناه وحسيناً عن يسراه وعليّاً وفاطمة وجاهه ثمّ غشاهم كساءً خيبريّاً. ثمّ قال: اللّهم لكلّ نبيّ أهل، وهؤلاء أهلي، فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} الآية.
فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه: «مكانكِ فإنّكِ إلى خير إن شاء الله».
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطّاب عن عبد الله بن الفضل قال: أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة عن محمّد بن مصعب عن الأوزاعي، عن عبد الله بن أبي عمّار قال: دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّاً فشتموه فشتمته، فلمّا قاموا قال لي: أشتمت هذا الرجل؟ قلت: قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم.
فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت: توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه فجلست فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي والحسن والحسين كلّ واحد منهما آخذ بيده حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفَّ عليهم ثوبه أو قال كساءه، ثمّ تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ.
وقيل: هم بنو هاشم. أخبرني ابن فنجويه عن ابن حبيش المقرئ عن محمّد بن عمران قال: حدّثنا أبو كريب قال: أخبرني وكيع عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين، قلنا لزيد بن أرقم ومَنْ أهل بيته؟ قال: الذين يحرمون الصدقة آل علي وآل عبّاس وآل عقيل وآل جعفر.
وأخبرني أبو عبد الله، قال: أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن قال: أخبرني أبو كريب عن معاوية بن هشام عن يونس بن أبي إسحاق عن نفيع أبي داود عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه يجيء كلّ غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
وأخبرني أبو عبدالله، حدّثني عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمّد بن إبراهيم ابن زياد الرازي، عن الحرث بن عبد الله الخازن، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية ابن الربعي، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله عزّ وجلّ: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] فأنا خير أصحاب اليمين».
ثمّ جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها ثلثاً، فذلك قوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون} [الواقعة: 8- 10] فأنا من السابقين وأنا من خير السابقين ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} [الحجرات: 13] الآية، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر.
ثمّ جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً فذلك قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

1 | 2 | 3 | 4